الدراسه في الشعر والأديب بقلم د. عبدالحميد ديوان


دراسة في شعر البحتري
القسم الاول

قيل عنه : أراد أن يشعر فغنى . هو في طليعة الشعراء العرب في العصر العباسي . اشتهر بالوصف، فكان وصفه للرياض صورة مفردة في الشعر العربي ، فهو عندما يصف فإن الصورة تتراقص في شعره وتتمايل مزهوة لأنها بنت خيال شاعر كالبحتري.
اسمه الوليد بن عبيد ويُكنى بأبي عبادة ولقبه البحتري نسبة إلى عشيريته (بُحترُ) الطائية وأمه شيبانية. ولد في منبج سنة 201 هـ وهي من أعمال حلب إلى الشمال منها قريبة من نهر الفرات. وقيل بل ولد بقرية تجاورها تسمى ( زردفنه ) ولكن الأرجح أنه ولد وعاش مرحلة الصبا في منبج لأنه ذكرها كثيراً في شعره . (وكانت عشائر بن طيء تنـزل بها) . ومدينة منبج كثيرة البساتين عذبة المياه باردة الهواء. أما هيئته فإننا نعلم عنه أنه كان أسمر طويل اللحية، نشا في أحضان عشيرته يتغذى من فصاحتها، فحذِق اللغة في سن مبكرة ، واختلف إلى الكُتّاب في سن مبكرة فحفظ القرآن، وحفظ كثيراً من الأشعار والخطب، ثم اختلف إلى حلقات العلماء في المساجد عندما أصبح شاباً وراح ينهل من هذه الحلقات اللغة والنحو والفقه والتفسير والحديث. وكانت موهبة الشعر قد برزت عنده في العشر الأوائل من عمره.
وسرعان ما راح ينظم الشعر في أصحابه وأهل بيته وكل من عرفه حتى أصحاب محلات بيع الخضار. ولم يمكث في منبج بعد ذلك زمناً طويلاً فطموحه كان أكبر من هذه المدينة الصغيرة. فقرر النـزول إلى حلب وفيها تعرف إلى (عَلْوه) التي أحبها وشغف بها ويبدو أنها كانت مغنية فجذبته إليها بصوتها وجمالها فهام بها وراح يتغزل فيها بقوله:
يا موعداً منها ترقبته
والصبح فيما بيننا يُسفِر
همت بنا حتى إذا أقبلت
نمّ عليها المسك والعنبر
يا مزنة يحتثها بارقُ
وروضة أنوارها تُزهر
ما أنصف العاذل في حبكم
بمثلكم من يُبتلى يَصبر
ويستغرق في حبها بل إن الشوق ليتمكن من قلبه فيسهر الليل والليالي الكثيرة مؤرقاً من حبها فيقول:
كم ليلةٍ فيك بت أسهرها
ولوعةٍ في هواك أضمرها
وحرقةٍ والدموع تطفئها
ثم يعود الجوى فيُسعرها
يا علوُ علَّ الزمانَ يُعقبنا
أيامَ وصلٍ نظل نشكرها
بيضاء رُوْدُ الشباب قد غُمِسَت عُمست
في خجلٍ دائباً يُعصفِرُها

مجدولةٌ هزها الصَّبا فشجا
قلبكَ مسموعُها ومنظرها
ويبدو أن علوة قد تزوجت من صديق لـه يسمى (الذفافي) وكان قد مدحه في بعض قصائده ، ولكنه عاد وهجاه عندما ارتبط بعلوة وكان مما قاله فيه :
نبئت زُوِّجتْ أخا خنثٍ

أغنَّ رطبَ الأطراف لينّها
وكان (فيما ذكر) الذفافي رجلاً موسراً فبنى لها داراً فخمة وسط مدينة حلب بقيت هذه الدار قائمة زمناً طويلاً .
وبالرغم من زواجها فإن علوة لم تفارق مخيلة البحتري إلى آخر يوم من حياته فهو عندما ابتعد عنها إلى بغداد ظل يذكرها ويذكر حلب بها فيقول :
امُررْ على حلبٍ ذات البساتين
والمنظر السهل والعيش الأفانين
أقام كلُّ مُلثِّ الودق رجاسِ
على ديار يعلو الشام أدراس
هل من سبيل الظهران من حلب
ونشوة بين ذاك الورد والآسى
أمد كفي لأخذ الكاس من رشأ رشأ
وحاجتي كلها في حامل الكاس الكاس

ترك البحتري حلب مفجوعاً بحبه وانطلق إلى حمص يقصد أميرها فسمع أن عنده أبا تمام وأن الشعراء يعرضون عليه أشعارهم، فعرض شعره فأقبل عليه وقال له :
أنت أشعر من أنشدني فكيف حالك؟ فشكا إليه حاله فكتب إلى أهل معرة النعمان "يصل كتابي مع الوليد أبي عبادة الطائي وهو على بذاذته (أي سوء حاله) شاعر فأكرموه" فاستقبله أهل معرة النعمان استقبالاً حسناً ووظفوا لـه أربعة آلاف درهم. ويبدو أن صلات ممدوحيه قد توالت بعد ذلك من أمثال آل حميد الطوسي في الموصل وخالد بن يزيد والي أرمينية ووالي حلب محمد بن يوسف الثغري الطائي (وهو ابن عشيرته) فأصبح حاله في خير خاصة وأن البحتري كان مشهوراً بالبخل.
إذا فإن أول اتصال لـه بأبي تمام كان خيراً عليه في الجانب المادي، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد فقد كان أثر أبي تمام في البحتري أكبر من ذلك فقد أثر في توجهه الشعري لأنه تعهده بالرعاية وراح يلقنه كيف يجيد الشعر ويحسنه حتى أصبح ذلك الشاعر المعروف.
ويعترف البحتري بفضل أستاذه عليه فيقول:
(1) »كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه حتى قصدت أبا تمام، فانقطعت فيه وإليه واتكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي: يا أبا عبادة تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم صِفْرٌ من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة ، وقسطها من النوم. فإذا أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقاً والمعنى رشيقاً، وأكثر من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق، ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي إباء، فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه، وأبن معاطه، وشرِّف مقامه. وتقاص المعاني واحذر المجهول منها، وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الرزية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام، وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك. ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب. واجعل شهوتك إلى قول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه، فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسنه العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه تَرْشُدْ إن شاء الله «.
وبهذا فقد وضع أبو تمام للبحتري دستوراً كاملاً يستقي منه صنعة الشعر كأحسن ما يكون الشعر في صنعته.
ولم يكذب البحتري أستاذه في ظنه فقد اتبع نصائح أستاذه واستجاب لها فاطمأن أبو تمام إلى أنه سيكون شاعراً له شأن فأخذ يعرفه على ممدوحيه في الشام والجزيرة والموصل وأرمينية. فانقطع إليهم يمدحهم وبخاصة القائد محمد بن يوسف الثغري بطل حروب بابك الخرَّمي والروم الذي ظل يمدحه حتى توفي سنة 236هـ ويتولى المتوكل الخلافة سنة 232هـ فينكل بابن الزيات مما جعل البحتري يبقى بعيداً عنه خوفاً على نفسه لأنه قال في قصائده بضعة أبيات يظهر فيها تعصبه للمعتزلة وقولهم بأن القرآن مخلوق. ولكنه في الحقيقة لا يؤمن بكل تلك النظريات وهو موالٍ لكل خليفة وموال لقوله الذي يقول . وكان الواثق معتزلياً فكان البحتري كذلك . وهذه سمة سيئة في البحتري يلبس لكل حال لبوسها فهو متقلب لا يستقر على أمر وليس لـه رأي ويلتمس المنفعة لنفسه ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وحاول أن يطرق باب المتوكل في بادئ الأمر بعد تخلصه من آثار المعتزلة. ولكنه شعر أن تلك الأبواب لا زالت موصودة أمامه إلا أنه لم ييأس وراح يمدح بعض خواصه وبشكل خاص وزيره الفتح بن خاقان الذي اشتهر بكرمه مع الشعراء خاصة فيمدحه بقصيدة طويلة ويذكر مبارزته الأسد فيقول:
أجِدَّك ( ) ما ينفعـك يسري لزينبا
خيال إذ آب الظلام تأوبا
سرى من أعالي الشام يجلبه الكرى الكرى
هبوب نسيم الروض تجلبه الصَّبا
وما زارني إلا ولهت صبابة
إليه وإلا قلت أهلاً ومرحبا
وليلتنا بالجزع بات مساعفاً
يريني أناة الخطو ناعمة الصبا
أضرت بضوء البدر والبدر طالع
وقامت مقام البدر لما تغيبّا
ولو كان حقاً ما أتته لأطفأت
غليلاً ولا افتكت أسيراً مُعذَّبا
علمتكِ إن مُنيتِ مُنيتِ موعداً
جهاماً وإن أبرقتِ أبرقتِ خُلبّا
وكنت أرى الصدود الذي مضى
دلالٌ فما إن كان إلا تجنّبا
فوا أسفي حتّام أسألُ مانعاً
وآمنُ خوّاناً وأُعتِب مذنبا
سأثني فؤادي عنكِ أو أتبعُ الهوى
إليكِ إن استعصى فؤاديَ أو أبى
أقول لركبٍ معتفين تدرّعوا
على عجل قطعا من الليل غيبهما
ردوا نائل الفتح بن خاقان إنه
أعمّ ندى فيكم وأقرب مطلبا
هو العارض الثّجاج اخضَلَ جودُه
وطارت حواشي برقه فتلهبا
إذا ما تلظّى في وغىً أصعقَ العدى
وإن خاض في أكرومةٍ غمر الرُّبى الربى
رزين إذا ما القوم خفّت حلومهم
وقور إذا ما حادث الدهر أجلبا
حياتك أن بلقاكَ بالجود راضياً
وموتُك أن يلقاك بالبأس مُغضَبا
فتى لم يضيّع وجهَ حزمٍ ولم يبت
يلاحظ أعجاز الأمور تَعَقُّبا
با

إذا همّ لم يقعُدْ به العجز مقعدا وإن
كفّ لم يذهب به الخُرقُ مذهبا
وقد جربوا بالأمس منك عزيمة
فَضَلْتَ بها السيفَ الحسامَ المجربَّا
يحصنه من نهر »ينـزك« معقلٌ
منيع تسامى روضه وتأشَّبا
يرود مناراً بالظواهر مُكَباً
ويحتلُّ روضاً بالأباطح معشِبا
يجر إلى أشباله كلَّ شارق
 عبيطاً مُدمىَّ أو رميلاً مخضّبا
ومن يبغ ظلماً في حريمك ينصرف

إلى تلفٍ أو يثنِ خزيانَ أخيبا
شهدتُ لقد أنصفته يوم تنبري 
 له مصلتا عضباً من البيض مِقضبا
فلم أر ضرغامين أصدق منكما 
 عِراكاً إذا الهيابة النكسُ كذّبا 
هِزَبرٌ مشى يبغي هزبراً وأغلبٌ
 من القوم يغشى باسل الوجه أغلبا أغلبا
حملت عليه السيف لاعزمك انثنى 
 ولا يدك ارتّدت ولا حدُّه نبا
وكنتَ متى تجمع يمينك تهتك الـ 
 ـضريبةَ أو لا تبقِ للسيف مضربا
ثم يذكر فضله عليه وما أسبغه من نعم جعلته يعيش في بحبوحة من العيش فيقول:
ألنتَ لي الأيام من بعد قسوةٍ
 وعاتبت لي دهري المسيءَ فأعتبا
وألبستني النعمى التي غيّرت أخي
 عليّ فأسى نازحَ الدار أجنبا
فلا فزتُ من مر الليالي براحة 
 إذا أنا لم أصبح بشكرك مُتعبا
على أن أفواف القوافي ضوامن
 لشكرك ما أبدي دجى الليل كوكبا كوكبا
ثناء تقصّى الأرض نجداً وغائراً 
 وسارت به الركبان شرقاً ومغربا
وتعلو مكانة البحتري عند الفتح بن خاقان، ويدرك الفتح من قصائد المدح التي يقولها أنه طامح إلى الوصول إلى الخليفة المتوكل فيعده الفتح بذلك، ويتعجل الشاعر الوفاء بالوعد فيقول في إحدى قصائده:

وعدتَ فأوشك نجحَ وعدكِ إنّهُ 
 من المجد إعجالُ المواعيد بالنُّجح
وأنت ترى نُصحَ الإمام فريضةً
 وإخباره عني سبيلٌ من النصحِ

ويفتح لـه المتوكل أبوابه بيد الفتح ويستمع إليه، وتتوثق الصلة بينهما ولم يترك أحداً من وزراء المتوكل أو معاوني الفتح إلا ووصل مدحه إليهم فمدح عبيد الله بن يحيى بن خاقان وأبا نوح عيسى بن ابراهيم أحد كتاب دوواين الخراج وغيرهم كثير.
وكان لا يترك وجيهاً  ولا ولياً ولا صاحب خراج في طريقه من سامراء إلى منبج إلا ويقِّدم إليه مدائحه ويأخذ جوائزه، من مثل بني حميد الطوسي الطائي وأبي سعيد الثغري وابنه يوسف (صاحبي) أرمينية. وكان لا يترك انتصاراً للخليفة على أعدائه أو المتمردين إلا ويدونه في قصائده.
وقد حدث في أواخر القرن الثالث أن قامت حروب دامية بين قبائل ربيعة بين تغلب وشيبان وغيرهما، واستطاع الفتح بن خاقان أن يحقن الدماء بينها وان يردها إلى الطاعة، ومع أن كتب التاريخ لا تذكر هذا الحدث إلا لماماً أما البحتري فيسجل هذه الوقائع والآسى يملأ قلبه فهذه القبائل تنحدر من أب واحد ومع ذلك فهي تفزع إلى السيف فيما بينها. يقول البحتري في ذلك:
أسيت لأخوالي ربيعة إذ عفت 
 مصايفها منها وأقوت ربوعها
بكرهي أن باتت خلاء ديارها 
 ووحشاً مغانيها وشتى جموعها
إذا افترقوا عن وقعة جمَّعتهم 
 لأخرى دماءٌ ما يُطلُّ نجيعها
حمية شعب جاهلي وعزةٌ 
 كليبيّةٌ أعيا الرجالَ خضوعها 
وفرسانِ هيجاء تجيش صدورها
 بأحقادها حتى تضيق دروعها
تُقَتِّلُ من وترٍ أعز نفوسها 
 عليها بأيد ما تكاد تطيعها
إذا احتربت ففاضت دماؤها 
 تذكرت القربى ففاضت دموعها
شواجرُ أرماح تُقَطِّع بينهم 
شواجرُ أرحامٍ ملومٍ قطوعها
وبقي البحتري إلى جانب الخليفة المتوكل يغرف من رفده ويمدحه ويصف قصوره الكثيرة التي ناهز عددها العشرون ووصف ما تحويه هذه القصور من مِثْلِ وصفه للبركة التي يحويها أحد قصوره فيقول:

ميلوا إلى الدار من ليلى تحييها
 نعم ونسألها عن بعض أهليها

يا دمنة جاذبتها الريح بهجتها
 تبيت تنشرها طوراً وتطويها
لا زلت في حلل للخير ضافية 
 ينيرها البرق أحياناً ويسديها
يامَن رأى البركة الحسناء رؤيتُها
 والآنسات إذا لاحت مغانيها 
بحسبها أنها في فضل رتبتها
 تعدُّ واحدة والبحر ثانيها
مابال دجلة كالغيري تنافسها
 في الحسن طوراً وأطواراً تباهيها
أما رأت كالئ الاسلام يكلائها
 من أن تعاب وباني المجد يبنيها
كأن جِنَّ سليمان الذين ولوا
 إبداعها فأدقُّوا في معانيها
فلو تمر بها بلقيس عن عُرْضٍ
 قالت هي الصرحُ تمثيلاً وتشبيها
تنصب فيها وفودُ الماء مُعْجِلةً 
 كالخيل خارجةً من جبل مُجريها
كأنما الفضلة البيضاء سائلة
 من البائك تجري في مجاريها
إذا علتها الصَّبا أبدت لها حُبُكاً
 مثلُ الجواشن مصقولاً حواشيها
فحاجب الشمس أحياناً يضاحكها
 وريّق الغيث أحياناً يباكيها
إذا النجوم تراءت في جوانيها
 ليلاً حَسِبْتَ سـماءً رُكِّبَتْ فيها
لا يبلغ السَمَكُ المحصور غايتها
 لبعد مابين قاصيها ودانيها
كأنها حين لَجَّت في تدفقها 

 يدُ الخليفة لما سال واديها
وزادها رتبة من بعد رتبتها
 أن اسمه يوم يدعى من أساميها
محفوفة برياض لا تزال ترى
 ريش الطواويس تّحكيه ويحكيها
وشهد البحتري مقتل المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان فجزع جزعاً شديداً وحزن حزناً كبيراً فقد كان يرى في المتوكل والفتح بن خاقان الركن الذي يحتمي به من غدر الزمان ورثى المتوكل بقصيدة من أروع قصائد الرثاء عنده وفيها يقول :
مَحَلٌّ على القاطول أخلق دائره
 وعادت صروف الدهر جيشاً يغاوره
ورُبَّ زمان ناعمٍ ثَمَّ عهدُه 
 تَرِقُّ حواشيه ويورقُ ناضره
تغير حُسْنُ الجعفري وأنسُه
 وقُوِّضَ بادي الجعفري وحاضره
تحملَّ عنه ساكنوه فجاءة
 فآضت سواء دوره ومقابره 
إذا نحن زرناه أجدَّ لنا الأسى
 وقد كان قبلَ اليوم يُبْهَجُ زائره
ولم أنس وَحْشَ القصر إذ رِيع سِربه 
 وإذ ذُعَرتْ أطلاؤه وجآذره
وإذ صِيح فيه بالرحيل فَهُتِّكَت 
 على عجلٍ أستاره وستائره 
كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة
 بَشاشتها والملك يشرق زاهره
فأين الحجاب الصعب حيث تمنَّعت
 بهيبتها أبوابُه ومقاصره
وأين عميد الناس في كل نوبة
 تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره
تخفَّى لـه مغتاله تحت غِرَّة
وأولى لمن يغتاله لو يجاهره

صريعٌ تقاضاه السيوف حشاشة
 يجود بها والموت حُمْرٌ أظافره
أدافع عنه باليدين ولم يكن 
 لِيثني الليالي أعزلُ الليل حاسره
ولو كان سيفي ساعة الفتك في يدي
 درى الفاتك العجلان كيف أساوره
حرام عليّ الراحُ بعدك أو أرى
 دماً بدمٍ يجري على الأرض مائره
وهل أرتجي أن يطلب الدم واترٌ 
 يد الدهر والموتور بالدم واتره
وأظلمت الدنيا في عيني البحتري بعد مقتل المتوكل وصاحبه الفتح فخرج إلى المدائن يتعزى، وهناك نظم سينيَّته البديعة في وصف أطلال الأكاسره وبث في هذا الوصف حزنه وأساه ووجد فيه سلوته من الأحزان التي أحاطت به من كل جانب.
ثم عاد بعد ذلك إلى منبج وأهله وبقي هناك فترة قصيرة إلا أن طمعه المعروف عنه دفعه إلى العودة سريعاً إلى الخليفة الجديد المنتصر وباب وزيره أحمد بن الخصيب، وسرعان ما يستجيب له المنتصر ويعفو عنه ويُقرِّبه منه فيمدحه البحتري ويشيد بأعماله من مثل رفع الظلم عن العلويين والتعرض لهم فيقول :
وآل أبي طالب بعدما
 أذيع بسرٍّ بهما فانذعرْ
ونالت أدانيهم جفوة
 تكاد السماء لها تنفطر
وصَلْتَ شوابك أرحامهم
 وقد أوشك الحبل أن ينبتر
ولكن أيام المنتصر لا تطول فيتوفى بعد ستة أشهر من خلافته، وتتوالى على سُدَّةِ الخلافة أسماء فيمدح شاعرنا الجالس على كرسي الخلافة ويتنكر لمن سبقه فهو كالزمن الذي يعيش فيه لا وجه لـه ولا مستقر. إنه مع السلطان ومع كل من يصل إلى السلطان أما دون ذلك فهو متنكر لهم بل ويُحَرِّض عليهم إن كانوا أحياء.
ولو أحصينا الخلفاء الذين توالوا على كرسي الخلافة فلن نجد أحسن من شعر البحتري موثِّقاً لهذه المرحلة.فكل خليفة له رصيد من قصائد المدح طمعاً بالمال والضياع، وبقي البحتري على حاله هذه حتى توفي في منبج سنة 284هـ بعد أن ملأ فضاء الشعر بقصائد المديح لكل من هب ودب من الملوك والقادة والأمراء ودافعه في ذلك حب المال والطمع في الدنيا وكان يجمع صفتين في نفسه البخل الشديد وحب الدنيا

د عبد الحميد ديوان

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كتب الاديب الأستاذ غسان أحمد ألظاهر قصيدة بعنوان الألق البهـي

كتب الشاعر علي أحمد أبو رفيع سقيم

كتب الدكتور صالح وهبة القصيدة بعنوان لغة العيون